مقابلة الدنيا ومقابلة الآخرة: أين نحن من الاستعداد؟
هل سبق لك أن خضتَ مقابلة عمل؟ لا شك أنك قد تجهَّزت لها بأسئلة محضَّرة وأجوبة محسوبة، راجعت كل التفاصيل مرارًا وتكرارًا، حفظت الإجابات عن ظهر قلب وأعددت ردودًا مبهرة لتترك انطباعًا حسنًا في نفوس القائمين على المقابلة. عملت على إجاباتك من أجل وظيفة تمنحك الرزق وقد تزيد من شأنك بين الناس، وظيفة تُقيّدك بساعات طويلة، تحت إدارة رؤساء يُصدرون الأوامر والتعليمات. ورغم ذلك، تستعدّ لكل تفصيل، تفكّر، وتجتهد، وتُدقّق في كلماتك وأفعالك، كل ذلك من أجل منصب دنيوي لن يُقدم لك سوى المال وبعض التجربة.
تمرنت لأيام وربما أسابيع لتحقق هدفك الدنيوي، وإذا كانت مقابلة تقنية، فقد أمضيت سنواتٍ طويلة تتعلم وتدرب لأجل هذه الفرصة. تُحضّر نفسك للإجابة عن أسئلة مثل “أخبرني عن نفسك”، “ما هي نقاط قوتك وضعفك؟”، “كيف تتصرف تحت الضغط؟”. وفي يوم المقابلة، تهتم بأدق التفاصيل: تراجع مظهرك، تختار ملابسك بعناية، تعطر نفسك، وتُعيد النظر في طريق الوصول حتى تصل مبكرًا، فيراهم التزامك وجديتك. تبتسم بلطف، تظهر ودودًا، كل هذا لأجل قبولك في وظيفة، وتنتظر بعدها بفارغ الصبر أن يتخذوا قرارهم لصالحك.
أما في يوم المقابلة، تقف أمام المرآة لتتأكد من مظهرك، ترتدي أجمل ملابسك، وتعطر نفسك، تتأمل تفاصيل وجهك وتعابيرك، تبحث في أفضل طريقة للوصول في الوقت المحدد، تخطط لكل شيء لتصل قبل الموعد بنصف ساعة، فقط كي تبرهن على جديتك وحرصك على هذه الفرصة.
توزّع الابتسامات في كل لحظة، تُظهر لطفك وودّك، تبتسم لكل سؤال وكأنك لا تبذل أي عناء في الرد عليه. وفوق هذا كله، تأمل من قلبك أن تُقبل للوظيفة وأن ينال استعدادك رضاهم.
لكن تأمل: كل هذا من أجل مقابلة إنسان، مثلك، محدود القدرات، يأكل ويشرب ويخطئ، ورغم ذلك تستعد له بكل هذا الحرص والتدقيق.
فإذا كان هذا استعدادك لمقابلة بشر، فكيف يجب أن يكون استعدادك لمقابلة الله، رب العالمين، في صلواتك اليومية؟ ألم يحن الوقت لتتأمل كيف نتثاقل عن أداء الصلاة في وقتها، وكيف نُؤديها أحيانًا كأنها عبء علينا، لا نبالي بملابسنا ولا بهيئتنا، رغم أننا نقف بين يدي خالق السموات والأرض؟ قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (سورة المؤمنون، الآية 1-2)، فهل نحن من هؤلاء الذين يخشعون ويستشعرون عظمة الوقوف بين يدي الله؟ نصلي بسرعة وبلا حضور قلب، وكأننا نقابل أمرًا عابرًا لا لقاءً مع خالق الكون.
ويقول الله سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
(سورة النساء، الآية 103).
إن كنا نتفانى ونتحضّر لأجل وظيفة دنيوية، فكيف يجب أن يكون استعدادنا للقاء الله؟ هذا لقاءٌ لا يأتي معه راتب ولا منصب، بل سعادة أبدية في جنات النعيم، أو حساب شديد. تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله” (رواه الترمذي). أليس حريٌ بنا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسب؟
تأمل أيضًا يوم القبر، حين يسألك الملكان ثلاثة أسئلة فقط: من ربك؟ ما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بُعث فيكم؟ هل أعددت إجابتك لها؟ هل تدبرت وفكرت في عمق هذه الأسئلة؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن العَبْدُ إذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ، وتُوُلِّيَ وذَهَبَ أصْحَابُهُ حتَّى إنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أتَاهُ مَلَكَانِ، فأقْعَدَاهُ، فَيَقُولَانِ له: ما كُنْتَ تَقُولُ في هذا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولُ: أشْهَدُ أنَّه عبدُ اللَّهِ ورَسولُهُ، فيُقَالُ: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أبْدَلَكَ اللَّهُ به مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَيَرَاهُما جَمِيعًا، وأَمَّا الكَافِرُ – أوِ المُنَافِقُ – فيَقولُ: لا أدْرِي، كُنْتُ أقُولُ ما يقولُ النَّاسُ، فيُقَالُ: لا دَرَيْتَ ولَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بمِطْرَقَةٍ مِن حَدِيدٍ ضَرْبَةً بيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَن يَلِيهِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ.” ( صحيح البخاري). فكيف ستُجيب إن لم يكن قلبك عامرًا بالإيمان، ولم تعش حياتك محصنًا بالتقوى والعمل الصالح؟
وما هو أعظم، يوم القيامة حين نقف جميعًا للحساب، حيث تُعرض أعمالنا ونُسأل عن كل صغيرة وكبيرة.
قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
(سورة الزلزلة، الآية 7-8).
هل فكرت كيف ستبرر تقصيرك وتهاونك في أداء حق الله؟ حينها لن تجد من يُمهلك وقتًا لتعد إجاباتك، ستكون وحيدًا أمام الله، والأعمال وحدها تتحدث. كيف ستُبرر تقاعسك عن أداء الطاعات وتهاونك فيها؟ هل ننتظر يوم القيامة لنُحاكم على صلوات ضيعناها وعبادات تجاهلناها؟
يا حسرةً على أنفسنا، كيف سنجيب على كل ما فعلناه في الدنيا؟ كيف سنقف أمام الله ونبرر تقصيرنا؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الكَيِّسُ مَن دانَ نفسَه وعَمِلَ لِما بَعدَ المَوتِ” (رواه الترمذي). فالعاقل هو من يُعدّ العدة ليوم اللقاء مع الله، ويعمل للآخرة كما يعمل للدنيا وأكثر. علينا أن نتذكر أن هذه الحياة دار عمل، والآخرة دار حساب، وما نقدمه اليوم سيُعرض علينا غدًا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك” (رواه الحاكم).
فنسأل الله أن يُعيننا على طاعته، وأن يجعلنا من الذين يستعدون للآخرة بقلوب فلنعتبر من هذه المقارنة بين مقابلة الدنيا وملاقاة الله، ولنرتب أولوياتنا، ونجعل من كل صلاة لقاءً مهيبًا مع الله، نتزين لها بقلوب نقية، ونخشع فيها بكل جوارحنا، لأنها لقاءٌ مع ملك الملوك، ولعلها آخر لقاء.
لتكن هذه الكلمات تذكرة لي ولك، أن نغتنم الوقت ونعود إلى الله بقلوب خاشعة وأعمال صالحة، فلا ننسى الغاية الكبرى، ونعمل للآخرة كما نعمل للدنيا، بل وأكثر.